فصل: فصل في تحريم العقوق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في تحريم العقوق:

اعلم وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه، وجنبنا وإياك متا يسخطه ولا يرضاه، أن العقوق من كبائر الذنوب وحده بعضهم بأنه صدور مَا يتأذى به الوالد من قول أو فعل.
وقال بعضهم: ضابط العقوق هو أن يحصل للوالدين أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عرفًا فسبهما وعصيانهما والتلكؤ فِي قضاء شؤونهما، ومد اليد بالسوء إليهما، ولعنهما وغيبتهما، والكذب عليهما.
كل ذلك عقوق ونكران للجميل، وكذلك نهرهما وقهرهما وتوبيخهما والتأفف منهما والدعاء عليهما، كقوله: أراحنا الله مِنْه، أو أخذه الله أو عجل الله بزوالكم والتكبر عليهما.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شر الناس، ثلاثة متكبر على والديه يحقرهما، ورجل سعى بين الناس بالكذب حتى يتباغضوا، ورجل سعى بين رجل وامرأته بالكذب حتى يغيره عليها بغير حق حتى فرق بينهما ثم يخلفه عليها من بعد». رواه أبو نعيم.
وأخرج البخاري فِي الأدب المفرد قال: حدثنا زياد بن مخراق قال: حدثني طيسلة بن مياس قال: كنت مع النجدات فأصبت ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر فذكر ذلك لابن عمر قال: مَا هي؟ قلت: كذا وكذا.
قال: ليس هذه الكبائر هن تسع: الإشراك بالله، وقتل نسمة، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم وإلحاد فِي المسجد، والذي يستسخر، وبكاء الوالدين من العقوق، قال لي ابن عمر: أتفر من النار وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت: أي والله. قال: أحي والداك؟ قلت: عندي أمي، قال: فوالله لو ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة مَا اجتنبت الكبائر. وأخرج فيه أيضًا قال: حدثنا موسى حدثنا حماد بن سلمة عن زياد بن مخراق عن طيسلة: أنه سمع ابن عمر يقول: بكاء الوالدين من العقوق والكبائر.
وبعض الناس لا يكتفي بالتقصير فِي الواجب فِي حق أبويه بل يسمع والديه مَا يسوؤهما، وتضيق به صدورهما، وينكد عليهما معيشتهما، فتجد الوالد يكره معه الحياة، ويتمنى لأجله أنه لَمْ يكن له ولد وربما تمنى أنه كان عقيمَا.
فكلام الابن العاق تئن له الفضيلة، ويبكي له المروءة، وتأباه الديانة، ولا يرضى به العاقل فضلاً عن المتدين، لأن فعله منكر عظيم، وَقَدْ لا يسب العاق أباه مباشرة، ولكن يسب أبا هذا وأم هذا، فيسبون أمه وأباه، ويصبون على والديه من اللعنات أضعاف مَا صدر مِنْه، والبادي هو الظالم وما أكثر السب والشتم واللعن فِي وقتنا هذا، وما أسهله عندهم.
وما أكثر الاحتقار للآباء والأمهات فِي البيوت والأسواق وفي كل محل، ونسأل الله العافية.
ومما جاء فِي العقوق وجرمه وقبحه وإثمه مَا رواه البخاري وغيره عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال».
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثًا قلنا: بلى يا رسول الله. قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين». وكان متكئًا فجلس فقال: «ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور». فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
وللبخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس، واليمين الغموس». وللبخاري ومسلم والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر فقال: «الشرك بالله وعقوق الوالدين». متفق عليه.
إلى اللهِ أُهْدِي مِدْحَتِيْ وَثَنَائِيَا ** وَقَوْلاً رَصِينَا لا يَنَيْ الدَّهْرَ بَاقِيَا

إلى اِلمَلِكِ الأَعَلَى الذي لَيْسَ فَوْقَهُ ** إِلهٌ ولا رَبٌ يَكُوْنُ مُدَانِيا

ألا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِيَّاكَ والرَّدَى ** فَإِنَّكَ لاَ تَخْفَى مِنْ اللهِ خَافِيا

وَإِيَّاكَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ غَيْرَهُ ** فَإِنَّ سَبِيلَ الرُّشْدِ أَصْبَحَ بَادِيَا

إلى أن قال:
وَأَنْتَ الذِي مِنْ فََضْلِ مَنٍّ وَرَحْمَةٍ ** بَعَثْتَ إِلَى مُوسَى رَسُولاً مُنَادِيَا

فَقَلْتَ لَهُ فَاذْهَبْ وَهَارُونَ فَادْعُوا ** إلى اللهِ فَرْعَوْنُ الَّذِي كَانَ طَاغِيَا

وَقُولاَ لَهُ أَأَنْتَ سَوَّيْتَ هَذِهِ ** بِلاِ وَتَدٍ حَتَّى اطَمَأنَّتْ كَمَا هِيَا

وَقُولاَ لَهُ أَأَنْتَ رَفَعْتَ هَذه ** بِلاَ عَمَدٍ أرْفُقْ إِذَا تَكُ بَانِيَا

وَقُولاَ لَهُ أَأَنْتَ سَوَّيْتَ وَسْطَهَا ** مُنِيرًا إِذَا مَا جَنَّهُ اللَّيْلَ هَادِيَا

وَقُولاَ لَهُ مَنْ يُرْسِلُ الشَّمْسَ غَدْوَةً ** فَيُصْبِحُ مَا مَسَّتْ مِنْ الأَرْضَ ضَاحِيَا

وَقُولاَ لَهُ مَنْ يَنْبِتُ الحَبَّ فِي الثَّرَى ** فَيُصْبِحَ مِنْه البَقْلُ يَهْتَزُّ رَابِيَا

وَيُخْرِجُ مِنْه حَبَّهُ فِي رُؤُسِه ** فَفِي ذَاكْ آيَاتُ لِمنْ كَانَ وَاعِيا

وَأَنْتَ بِفَضَلِ مِنْكَ نَجَّيْتَ يُونُسَا ** وَقَدْ بَاتَ فِي بَطْنِ لِحُوتِ لَيَالِيَا

اللهم إنا نسألك الثبات فِي الأمر والعزيمة على الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
فصل:
وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي كتبه إِلَى أهل اليمن وبعث به مع عمرو بن حزم: «وأن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار فِي سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة وتعلم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم». الحديث رواه ابن حبان فِي صحيحه.
وأخرج النسائي والبزار واللفظ له بإسناد جيدين والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ومدمن الخمر، والمنان عطاؤه وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث والرجلة من النساء».
وأخرج أحمد واللفظ له والنسائي والبزار والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق، والديوث الذي يقر الخبث فِي أهله».
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يقبل الله عز وجل مِنْهُمْ صرفًا ولا عدلا، عاق ومنان ومكذب بقدر». رواه ابن أبي عاصم فِي كتب السنة بإسناد حسن. وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينفع معهن عمل الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف». رواه الطبراني فِي الكبير.
وعن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إذا صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان، وأديت الزكاة، وحججت البيت، فماذا لي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فعل ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلا أن يعق والديه». رواه أحمد والطبراني بإسنادين أحدهما صحيح ورواه ابن خزيمة وابن حبان فِي صحيحهما.
وعن علي عليه رضوان الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله ثم تولى غير مولاه، ولعن الله العاق لوالديه، ولعن الله من نقص منار الأرض». رواه الحاكم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله سبعة من فوق سبع سمواته وردد اللعنة على واحد مِنْهُمْ ثلاثًا ولعن كل واحد مِنْهُمْ لعنة تكفيه، قال: ملعون من عمل عمَل قوم لوط، ملعون من عمل عمَل قوم لوط، ملعون من عمَل قوم لوط، ملعون من ذبح لغير الله ملعون من عق والديه، ملعون من أتى شيئًا من البهائم، ملعون من جمع بين امرأة وابنتها، ملعون من غير حدود الأرض ملعون من ادعى إِلَى غير مواليه». رواه الطبراني فِي الأوسط ورجاله رجال الصحيح إلا محرز ويقال محرر بالإهمال ابن هارون أخي محرر، وقال: صحيح الإسناد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة الساخط عليه أبواه غير ظالمين له». رواه أبو الحسن ابن معروف فِي كتاب فضائل بني هاشم.
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل الذنوب يؤخر الله مِنْهَا مَا شاء إِلَى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه فِي الحياة قبل الممات». رواه البخاري فِي الأدب المفرد والطبراني فِي الكبير والحاكم فِي المستدرك والأصبهاني فِي الترغيب.
وذكر أن شابًا كان مكبًا على اللهو واللعب، لا يفيق عنه، وكان له والد صاحب دين كثيرًا مَا يعظ هذا الابن ويقول له: يا بني احذر هفوات الشباب وعثراته فإن لله سطوات ونقمات مَا هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألح عليه زاد فِي العقوق، وجار على أبيه، ولما كان يوم من الأيام ألح على ابنه بالنصح على عادته، فمد الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهدًا ليأتين بيت الله الحرام، فيتعلق بأستار الكعبة، ويدعو على ولده فخرج حتى انتهى إِلَى البيت الحرام فتعلق بأستار الكعبة وانشأ يقول:
يَا مَنْ إِلَيْهِ أَتَى الحُجَّاجُ قَدْ قَطَعُوا ** عَرْضَ المَهَامِهِ مِنْ قُرْبٍ وَمِنْ بُعُدِ

إنِّي أَتَيْتُكَ يَا مَنْ لا يُخَيِّبُ مَنْ ** يَدْعُوهُ مُبْتَهِلاً بالوَاحِدِ الصَّمدِ

هَذَا مُنَازِلُ لاَ يَرْتَدُّ مِنْ عَقَقِي ** فَخُذْ بِحَقِي يَا رَحْمَنُ مِنْ وَلَدِي

وَشُلَّ مِنْه بِحَوْلٍ مِنْكَ جَانِبُهُ ** يَا مَنْ تَقَدَّسَ لَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَلِد

وقيل: إنه استتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن. نعوذ بالله من العقوق، ومن قساوة القلوب، ومن جميع المعاصي والذنوب وكان يقال: كدر العيش فِي ثلاث الولد العاق والجار السوء والمرأة السيئة الخلق لأنك لا تنفك فِي عناء وشغب وتعب فإن سكن العاق برهة من الزمن مَا سكن الجار السوء وأهله وأولاده وإن سكنا لَمْ تسكن العلة الداخلية المرأة السوء سيئة الخلق فأنت فِي هذه الحال غرض لثلاثة سهام موجهة إليك فِي أربع وعشرين ساعة نسال الله العافية مِنْها.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات: «لا تشرك بالله شيئًا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك ولا تتركن صلاة متكوبة متعمدًا فإن من ترك صلاة متكوبة متعمدًا فقد برئت مِنْه ذمة الله، ولا تشربن الخمر فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية فإن المعصية يحل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس وإذا أصاب الناس موت، وأنت فيهم فاثبت. وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبًا وأخفهم فِي الله». رواه أحمد والطبراني فِي الكبير وإسناد أحمد صحيح إلا أن فيه انقطاعًا لأنه من رواية عبد الرحمن ابن جبير عن معاذ وهو لَمْ يسمع مِنْه.
وعن عمرو بن ميمون قال: رأى موسى عليه السلام رجلاً عند العرش فغبطه بمكانه فسأل عنه، فقالوا: نخبرك بعمله، لا يحسد الناس على مَا آتاهم الله من فضله، ولا يمشي بالنميمة، ولا يعق والديه، قال: أي رب ومن يعق والديه؟ قال: يتسبب لهما حتى يسبا. رواه أحمد فِي الزهد.
صَافِي الكَرْيَمِ فَخَيْرُ مَنْ صَافَيْتَهُ ** مَنْ كان ذا دَاينٍ وكان عَفِيفَا

وَاحْذَرْ مُؤاخَاةَ اللَّئْيمِ فإنَّهُ ** يُبْدي الَقبِيحَ وَيُنِكّرُ المَعْرُوفَا

آخر:
تَمسَّكْ بَوَصْلِ الْمُمْسِكِ الدِّينِ واجْتَنِبْ ** وصَالَ سِوَاهُ مِنْ قَرِيبٍ وشاسِعِ

فَذُو الدِّينِ أَدْنَى النَاسِ مِنْكَ قَرابةً ** فَصِلْهُ فَمَا وَصْلُ البَعِيدِ بِضَائعِ

آخر:
أَخُو الفِسْقِ لا يَغْرُرْكَ مِنْه تَوَدُدٌ ** فَكُلُ حِبَالُ الفاسِقِينَ مَهِينُ

وَصَاحِبْ إِذَا مَا كُنْتَ يَوْمًا مُصَاحبًا ** أَخَا الدِينِ مِن بالغِيْبِ مِنْكَ أَمِينُ

آخر:
وَلَيْسَ خَلِيلِي بالملُولِ ولا الَّذِي ** إِذَا غِبْتُ عَنْهُ باعَنِي بِخَلِيلِ

ولكنْ خَلِيلِي مَنْ يِدُومُ وِصَالُهُ ** وَيَحْفَظُ سِرِّي عندْ كُلِّ خَلِيل

آخر:
يَمْضِي أَخُوكَ فلا تَلْقَى لَهُ عِوَضٌ ** والمالُ بَعْدَ ذَهَابِ المالِ يُكْتَسَبُ

اللهم نجنا برحمتك من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
فصل:
وفيما ذكرنا من الأدلة على تحريم العقوق كفاية ولو لَمْ يكن للعاق من العقوق إلا مَا يرى من سوء حاله لكفى فإنك تراه غالبًا فِي أبأس الحالات وآلامها وأشدها وتراهم بعيدين عن عطف القلوب عند من علموا حالهم لا يحنو عليهم صديق ولا شفيق ولا قريب، ولا يأخذ بيدهم كريم فِي كربة، ولا يرغبون فِي مصاهرته خشية أن يجذبوا أولادهم فيكونوا مثلهم عاقين.
بخلاف البارين فإنك تراهم ونراهم محببين إِلَى القلوب يتمنى كل من يعرفهم ويفهم برهم وصلتهم أن يتقدم إليهم بما يحبون وتجدهم إذا وقعوا فِي شدة يترحم الناس عليهم، ويدعون لهم بالخروج مِنْهَا على أيسر الأحوال وأقربها، هذا حالهم فِي الدنيا التي ليست هي دار الجزاء فكيف فِي الآخرة دار الجزاء؟
ومن أقبح مظاهر العقوق أن يتبرأ الولد من والديه حين يرتفع مستواه الاجتماعي عنهما كأن يكونا فلاحين أو نجارين أو صناعيين وهو يعيش فِي ترف ويتسنم بعض الوظائف الكبار فيخجل من وجودهما فِي بيته عند زملائه برثاثتها وزيهما القديم.
وربما سئل بعضهم عن أبيه من هذا الذي يباشر فقال: هذا خادم عندنا مستأجر لشئون البيت لأنه يتوهم أن هذه الهيئة واللباس تتنافى مع وظيفته أو مقامه الاجتماعي الكبير وهذا بلا شك برهان على سخافة عقله وقلة دينه والنفس العظيمة الشريفة تفتخر وتعتز بمنيتها وأصلها أبيها وأمها مهما كانت حياتهما ونشأتهما وبيئتهما وهيئتهما.
ولا يبعد أن يوجد من النساء اللاتي يقال لهن متعلمات إذا سئلت عن أمها من هذه أن تقول هذه فراشة عندنا أو طباخة أو خدامة نعوذ بالله من الانتكاس وعمى البصيرة ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
وذكر بعضهم أن رجلاً كان من المياسير بالبصرة يتمنى أن يرزق ولدًا، وينذر عليه حتى ولد له فسر به غاية السرور وأحسن تربيته حتى ارتفع عن مبلغ الأطفال إِلَى حد الرجال، ولم يهمه شيء من أمر الدنيا سوى هذا الولد ولم يؤخر ممكنا من الإحسان عنه، فلم يشعر الأب ذات يوم إلا بخنجر خالط جوفه من وراء ظهره.
فاستغاث بابنه مرتين فلم يجبه، فالتفت فإذا هو صاحب الضربة فقال الشيخ وهو يضرب من الألم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أستغفر الله، صدق الله أراد بالتهليل أن يلقى الله بالإيمان.
وأراد بالاستغفار أن الله تعالى حذره فلم يحذر من ابنه وبقوله: صدق الله قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} فجمع فِي هذه الكلمات كل مَا يحتاج إليه فِي هذه الحال.
قال بعضهم ممن تضرر بأقربائه ومعارفه:
جَزَى اللهُ عَنَّا خَيْرَ مِن لَيْسَ بَيْنَنَا ** ولا بَيْنَهُ وَدٌ بِهِ نَتَعرَّفُ

فما سَامَنَا ضَيْمًا ولا شَفَّنًا أذَى ** مِن الناس إلاَّ مَن نَوَدُّ وَنأْلَفُ

آخر:
أَرَى أَنَّ الشَّدَائِدَ فِيهَا خَيْرٌ ** أَرَى أَنَّ الشَّدَائِدَ فِيهَا خَيْرٌ

وَمَا مَدْحِي لَهَا حُبًّا وَلَكِنْ ** عَرَفْتُ بِهَا عَدْوِّي مِن صَدِيقِي

أَرَانِي وقَوْمِي فَرَّقَتْنَا مَذَاهِبُ ** وإنْ جَمَعَتْنَا فِي الأَصُوُّل المَنَاسبُ

فأقصَاهُمُ أَقصَاهُم عَنْ مَسَاءَتِي ** وَأَقْرَبُهُمْ مِمَّا كَرِهْتَ الأَقَارِبُ

نَسِيبُكَ مَن نَاسَبْتَ بالود قَلْبَهُ ** وجَارُكَ مَن صَافَيْتَهُ لاَ المُصَاقِبُ

وأعَظَمُ أَعْدَاء الرِّجَالِ ثِقَاتُهَا ** وأَهْونُ مَن عَادَيْتَهُ مِنْ تُحَاربُ

وقال آخر:
وما زِلْتُ مُذْ نَمَّ العِذَارُ بِوَجْنَتي ** أُفَتِّشُ عن هَذَا الوَرَى وأُكَشِّفُ

فَمَا سَاءَنِي إِلاَّ الَّذِينَ عَرَفْتُهُمْ ** جَزَا الله خَيرَا كُلَّ مَن لَيْسَ نَعْرِفُ

وقال بعض الآباء الذين ذاقوا عقوق الأولاد لابن له:
غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَعِلْيُكَ يَافِعًا ** تُعَلُّ بِمَا أُدْنِي إِلَيْكَ وَتُنْهَلُ

إِذَا لَيْلَةٌ نَابَتْكَ بالسُّقْم لَمْ أَبِتْ ** لِذِكْرِكَ إِلاَّ سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ

كَأَنِّي أنَا المَطْرُوقُ دُونْكَ بِالَّذِي ** طُرِقْتَ بِهِ دُونِي وَعَيْنِي تُهْمِلُ

تَخافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا ** لَتَعْلَمُ أَنَّ المَوْتَ حَتْمٌ مُؤًَجَّلُ

فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالغَايَةَ الَّتِي ** إليَها مَدَى مَا كُنتُ فِيكَ أُؤُمِّلُ

جَعَلْتَ جَزَائِي مِنْكَ جَبْهًا وَغِلْظَةً ** كَأَنَكَ أَنْتَ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ

وَسَمْيَّتَنِي بِاسْمِ المُفَنَّدِ رَأَيُه ** وَفِي رَأْيِكَ التَّفْنِيدُ لَوْ كُنْتُ تَعْقِلُ

تَراهُ مُعدًّا لِلْخَلافِ كَأَنَّه ** بردٍّ على أَهْلِ الصَّوَابِ مُوَكَّلُ

فَلَيْتَكَ إذْ لَمْ تَرْعَ حقَّ أُبُوَّتِي ** فَعَلْتَ كَمَا الجَارُ المُجَاوِرُ يَفْعَلُ

فَأَوَلَيْتَنِي حَقَّ الجِوَارِ وَلَمْ تَكُنْ ** عَليَّ بِمَالِي دُونَ مَالَكَ تَبْخَلُ

وقال آخر ممن ذاق وتجرع ألم العقوق:
يَوَدُ الرَّدَى لِي مِنْ سَفَاهَةِ رَأيهِ ** وَلو مُتُّ بَانتْ لِلعْدُوِّ مَقَاتِلُه

إذَا مَا رَآنِي مُقْبِلاً غَضَّ طَرْفَهُ ** كَانَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ دُوْنِي يُقَابِلُه